الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
ونشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدًا عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، نشهد أنَّه بلغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في سبيل دين ربه حتى أتاه اليقين.
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الغر الميامين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد..
فمنذ أكثر من عشر سنوات، وفي لحظات شفافية مع الله وتدبر فيما أتلو أو أقرأ في الصلاة، فلما وصلتُ إلى الصلاة الإبراهيمية في التشهد ثار سؤال في ذهني:
لماذا نقول في كل صلاة اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد؟
وكنت أقول: إن رسولناهو سيد الأولين والآخرين، فكيف كان من شعائر صلواتنا أن نسأل الله أن يصلي على نبينا وأن يبارك عليه كما صلى وبارك على سيدنا إبراهيم؟
ولاحظت بالنظرة السريعة أن سيدنا إبراهيم -دون بقية الأنبياء- له أثر واضح في حياتنا، فقد سمّانا المسلمين، كما قال سبحانه: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ} [الحج: 78].
ثم هناك الأضحية ومناسك الحج تدور حول سيدنا إبراهيم u؛ لتخليد هذه القوة في عقيدة التوحيد، وهذه الصورة من الأخذ بالأسباب ومواجهة نزغات الشيطان والنزول على أمر الله.
إن عيد الأضحى جائزة من الله تعالى لسيدنا إبراهيم u بعد أن نجح في اختبار شديد؛ ولذا صار القدوة الأولى، بل أكثر الأنبياء الذين أكدَّ الله أن نتبع ملتهم:
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123]، وقال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130].
التدبر في القرآن:
فقررتُ أن أنتقل من النظرة السريعة إلى أن أُرجع البصر كرتين، بأن أُفرد ختمة للقرآن باحثًا فيها عن سيرة وخصائص سيدنا إبراهيم u في جولات تدخل تحت عنوان "فقه التدبر". ثم جمعتُ ما تيسر لي من أحاديث النبيفي الصحاح خاصة، وفي كتب السنن ومرويات الحديث عامة؛ كي أنظر نظرة كلية تاركًا للنصوص أن ترسم لنا الصورة الحقيقية لسيدنا إبراهيم u.
وهي منهجية علمية أرى أنها ضرورية مُفادها: أن نأخذ موضوعًا واحدًا نتعقبه في القرآن والسنة تدبرًا، فنخرج بمعانٍ جمة وآثار طيبة.
وقد كانت جولة ما أروعها وما أجملها! وكم نغفل عن أفكار وحقائق ولذات ومتع هي في صلب القرآن والسنة وهدي سيد الأنام وسيرة أنبياء الله، عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام! وكان أول ما استقر في ذهني بعد هذه الجولة أن هناك رجلاً كأُمَّة، كما أن هناك رجلاً كَأَمَة.
وفارق هائل بين من يعيش هموم أُمَّة ومن يعيش هموم أمَة، أمَة لا تهتم إلا بلباسها وطعامها، أما من يعيش هموم أُمَّة فينظر إلى حاضرها ومستقبلها، ويتضاعف عطاؤه إلى مجتمعه وأمته، وهكذا كان سيدنا إبراهيم u بحقٍ أُمَّة في رجل.
69 مرة:
ومع العودة إلى جولات التدبر انتهى بي التفكر إلى أن سيدنا إبراهيم u الذي ذُكِر في القرآن الكريم (69) مرة هو خليل الله الذي جعل من سيرته عنوانًا على اكتمال دوائر الالتزام في كل حلقاتها، التزام في العسر واليسر، التزام في التعامل مع أهل الكفر والإسلام، التزام في التعامل مع أبيه وزوجه وولده ومجتمعه وأمته وعالمه.
أما نحن فعندنا فجوات هائلة في دوائر الالتزام، فبينما نجد أخًا حريصًا على أن يصلي في الصف الأول، وإذا فاتته الركعة الأولى وتكبيرة الحرام وهو مع الإمام عاتب نفسه أشد العتاب -وهو أمر حسن- لكن قد تجد منه عدم التزام بأداء الدَّيْن في الوقت المحدد.
فتشعر أن هناك فجوة بين التزامنا في المسجد والتزامنا خارجه، في الوقت الذي يجب أن نخرج بمبادئ الإسلام من الجوامع إلى الشوارع، ومن الجامعات إلى المؤسسات؛ حتى يبقى الإسلام ساطعًا في كل مكان من أرض الله.
ومن هنا أحببتُ أن أبيِّن التوازن المتميز في اكتمال جوانب الالتزام السبعة، مما جعل سيدنا إبراهيم قدوة لكل إنسان وفي أي موقع.
وأردت أن ننتقل من التأصيل إلى التطبيق على واقعنا، بأن نعيش هذه الجوانب مع شجاعة في الانتصاف من النفس "الشجاع من انتصف من نفسه"، بأن نُسقط هذا المثال الراقي مكتمل الحلقات في الالتزام بأمر الله على حياتنا الخاصة؛ لنبدأ مشوارًا في مجاهدة النفس لسد مواضع الخلل.
وتجنب أسباب الزلل في الفجوات التي لا تخلو منها نفس بشرية. نحن أحوج ما نكون إلى وعي بسيرة سيدنا إبراهيم u مكانة عند الله والمؤمنين، والتزامًا، وسدًّا لفجوات، وعلاجًا لثغرات لا يخلو منها أحد في حياته الخاصة والعامة.الكاتب: د. صلاح سلطان
الكاتب: د. صلاح سلطان
المصدر: موقع الدكتور صلاح سلطان